الخميس، 12 مايو 2011

تاريخ ظهور البحث اللغوي‏




إن الحديث عن تاريخ ظهور البحث اللغوي طويل جداً، ويطول بنا المقام لسرد مراحله الزمنية عبر التاريخ القديم والحديث. وكيف تطور عبر هذه الحقب من القرون الغابرة إلى أن ظهر في شكله الحداثي مع القرن التاسع عشر في غرب أوربا. ولا مانع من أن نعطي لمحة عن تاريخ ظهور البحث اللغوي قديماً وحديثاً في شكل مختصر جداً، معتمدين في التحديد على الكتب اللغوية التي تناولت المسألة بشكل دقيق ومحدد.‏

إن ظهور الدرس اللغوي ليس جديد العهد، وإنما يعود تاريخ نشأته إلى قرون قبل الميلاد. وتتفق جل آراء الباحثين اللغويين والمؤرخين على أن الدرس اللغوي بدأ أول ما بدأ عند الهنود في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد على يد بعض اللغويين الهنود، وعلى رأسهم إمام نحوييهم بانيني
PANINI. فظهور السنسكريتية التي هي أساس أداة الأدب "الفيدي" الكتاب المقدس لديانة الهنود ولعل اهتمامهم بدراسة لغتهم في هذا الوقت المبكر كان لهدف ديني في المقام الأول من أجل قراءة نصوص الفيدي قراءة صحيحة.‏

وجاءت دراستهم للغتهم على درجة عالية من التنظيم، والدقة، واشتملت هذه الدراسة على علم اللغة، وفروعها من دراسة الأصوات، والاشتقاق، والنحو والمعاجم، وفقه اللغة. وأهم دراسة أظهروا فيها تفوقهم: الدراسات الصوتية خاصة، ثم النحو وميزوا الفعل عن الاسم وحروف الجر والأدوات المتممة.‏

واليونانيون هم بدورهم درسوا لغتهم دراسة صوتية وصفية، وكانت دراستهم للغتهم تكاد تكون متزامنة مع دراسة الهنود، دون أن نجد في الكتب اللغوية أية إشارة تأثر الأولى بالثانية بعكس تأثير الرومان في الإغريق.‏

ويلتقي الدكتور أحمد مختار عمر، والدكتور محمود السعران حينما يتناولان الدرس اللغوي عند اليونان(8) بحيث يؤكدان أن التفكير اللغوي عند اليونانيين بدأ مرتبطاً بالفلسفة، وكان اللغويون الأوائل فلاسفة والبداية الحقيقية لدراسة لغتهم كانت منذ زمان، "أوربيدس 480-406ق. م" الذي فرق بين حروف العلة والحروف الصحيحة، ثم جاء بعده "أفلاطون حوالي "428-347ق. م" ويعرض التحليل الصوتي لوحدات التقطيع الثاني في حواره كراتيل
Cratyle وجاء بعده "أرسطو 384-322 ق.م" وتناول التحليل الصوتي في كتابه "فن الشعر" وعرف الصوت "الحرف" و حدوثه في اللسان والشفتين الخ... غير أن دراسة الإغريق للغتهم كما يزعم جورج مونين(9) كانت تتركز على بنية اللغة ونشأتها ولم تكن هذه الدراسة مهتمة بتطور اللغة وتنوعها.‏

ج-الرومان تلامذة اليونان وورثتُهم، إليهم يعود نقل بحوث اليونانيين اللغوية، وكان اليونانيون مقلدين أكثر منهم مبدعين ومجددين، ومن أشهر نحاتهم "فارو
Varron" الذي عاش "في القرن الأول ق. م".‏

ثم "دوناتوس
Donatus" الذي عاش في القرن الرابع الميلادي "وبرع في صناعة النحو" ثم "بريسكيان Priscien الذي عاش في القرن السادس الميلادي" صاحب كتاب اللغة(10) .‏

د-وكان العرب كغيرهم من الأمم السابقة سباقين لدراسة لغتهم، بعد أن استقر الدين الإسلامي واعتنقوه عقيدة في عبادتهم، فكان أن اهتموا بوضع ما يحفظ المصحف الشريف ويصونه أثناء تلاوته وحفظه خشية الوقوع في اللحن والتحريف، والتصحيف، في زمن أخذ فيه الاختلاط يعم الجزيرة العربية بين الأعجام والعرب الخلّص بسبب وحدة الإسلام، ولم يلبث الرجال المخلصون لعقيدتهم الإسلامية، والغيورون على لغتهم العربية التي بها نزل القرآن الكريم، أن دفعتهم فطرتهم الذاتية وإيمانهم القوي، فهبوا لوضع قواعد نحوية في بادئ الأمر كمرحلة أولى لتصون الألسنة من الوقوع في اللحن الذي أخذ يتفشى حتى في بيوت الأشراف من العرب وعلماء الأدب.‏

وكانت دراستهم للعربية قد انطلقت في بداية أمرها من الظاهرة الصوتية النحوية المتمثلة في تنقيط الإعراب زمان أبي الأسود ت 69هـ) بداية لمرحلة سوف تكون مرحلة الازدهار للدرس اللغوي في جميع خصائصه وتخصصاته، من دراسة مفردات أو دلالة، ونحو وصرف ودراسة صوتية، وبلاغية أو غيرها كالتي تخدم العربية وكتاب الله، لأن هذه الفترة شهدت الإقبال على دراسة العلوم الدينية من تفسير لكلام الله، والوقوف على غريب القرآن، ودلائل الإعجاز الربّاني، مع ظهور القراءات القرآنية، فكانت مسألة الدراسات اللغوية المرتبطة مكملة بل هي في خدمة العلوم الدينية، وظهور رجال كثيرين برعوا وتفوقوا في التأليف والتقعيد اللغوي والصوتي والبلاغي: نذكر بعضهم على سبيل المثال لا الحصر، كالخليل بن أحمد الفراهيدي ت 175هـ)، وسيبويه ت 180هـ)، ويونس بن حبيب 183هـ) مروراً بأحمد بن فارس ت 312هـ)، وابن جني ت 395هـ)، وعبد القاهر الجرجاني ت 471هـ)، والزمخشري ت 538هـ)، والسكاكي ت 626هـ)، وغيرهم ممن قدموا خدمات جليلة للعربية ومجالات الدراسة بصفة عامة.‏

إن الحديث عن اللغة طويل ولا يمكن لنا مهما اختصرنا الكلام أن نذكر إلا نزراً قليلاً فقط، وتجنباً لإطالة الموضوع فإننا نتخطّى القرون الوسطى، ومجهوداتنا في البحث اللغوي المتواضع، تعتبر امتداداً لعهد النهضة الفكرية الأدبية والعلمية وعصر التنوير وما بعدها.‏

ومع بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي شهد البحث اللغوي تطوراً ويقظة وتجديداً لم يسبق له مثيل من قبل على يد ثلة من الباحثين الغربيين الإنجليز، والفرنسيين، والألمان، والإيطاليين، وغيرهم من بعض الأقطار الأوربية ثم يصل الأمر فيما بعد إلى قارة أمريكا.‏

كانت الدراسات اللغوية في الغرب قد عرفت طريق الانتعاش، والازدهار منذ أن توصل "فردريك أوجست ولف" إلى ابتداع النقد المقارن للنصوص القديمة المكتوبة في سنة 1777م)(11) وكان هذا المنهج في رأي الدارسين اللغويين عاملاً رئيساً وأساسياً أقيم على ضوئه تصنيف اللغات على أسر ومجموعات أساسية وفرعية.‏

ثم زادت البحوث اللغوية تطوراً وشهرة، وذلك بعدما تم الكشف عن اللغة السنسكريتيّة على يد العلامة الإنجليزي اللغوي وليام جونز 1786م) فكانت هذه اللغة محل ميدان دراسة للمنهج المقارن الذي أصبح يستقل بدراسة السنسكريتية، ودرس جونز هذه اللغة واللغة الأوربية وما يوجد بينهما من شبه في ظل المنهج المقارن، إلى أن توصل كما يزعم إلى أن السنسكريتية هي أم اللغات الهند أوربية، ولم تقف الدراسة عند هذا الحد، بل تطورت البحوث اللغوية ودرست اللغات وشجرة أنسابها، وقد درست اللغة العربية وأخواتها السامية العبرية، والفينيقية، والأكدية، والحبشية، وأثبت العلماء وجود شبه وتقارب بين هذه اللغات في كثير من الأمور الفرعية النحوية واللغوية والاشتقاقية والدلالية فقالوا إنها تنتمي إلى أسرة واحدة.‏


ومن بين هؤلاء العلماء الكبار:‏

-الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي: والأستاذ الدكتور محمود السعران.‏

-الأستاذ الدكتور تمام حسان: والأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس.‏

-الأستاذ الدكتور محمد المبارك: والأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي.‏

-الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين.‏

-الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر: والأستاذ الدكتور عبده الراحجي.‏

وغيرهم ولا ننسى الأستاذ الدكتور عبد السلام المسدي وفي الجزائر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح والقائمة طويلة.‏

المصادر والمراجع‏

1- البحث اللغوي عند العرب: د. أحمد مختار عمر- عالم الكتب- ط: 7.‏

2- تاريخ علم اللغة منذ نشأتها إلى القرن العشرين: جورج مونتي- ترجمة د. بدر الدين بلقاسم- دمشق 1972.‏

3- الخصائص: ابن جني- تح: محمد علي النجار- المكتبة العلمية، بيروت.‏

4- علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة: د. محمود فهمي حجازي- دار غريب للطباعة والنشر.‏

5- علم اللغة، مدخل تاريخي مقارن: د. محمود فهمي حجازي.‏

6- علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي: د. محمود السّعران، دار الفكر العربي 1997م، ط: 2.‏

7- علم اللغة وفقه اللغة، تجديد وتوضيح: د. عبد العزيز مطر- قطر 1985 .‏

8- لسان العرب: ابن منظور‏

9- مبادئ اللسانيات: أحمد محمد قدور، دمشق 1999.‏

10- مدخل إلى علم اللغة: محمد حسن عبد العزيز‏

* باحث من الجزائر.‏

(1) لسان العرب لابن منظور: 9/371.‏

(2) علم اللغة وفقه اللغة تجديد وتوضيح ص: 9-10-11. الدكتور عبد العزيز مطر، دار قطري بن الفجاءة، قطر: 1985م.‏

(3) م، ن- 12/299، 300.‏

(4) الخصائص: 1/33. لأبي الفتح عثمان بن جني تحقيق محمد علي النجار المكتبة العلمية


هناك 3 تعليقات:

  1. أريد بحث حول طرائق البحث اللغوي عند العرب(الأدوات والوسائل) وجزاكم الله خيرا

    ردحذف